والتقوى علاقة تقيم مجتمعًا خلص عمله لله وابتغى به تقواه، مجتمعًا تكاملت أخلاقه مع أعماله التشريعية، فإذا بنا أمام صرح حضاري متميز أقامه الإسلام وطبقه رجاله في صدر الإسلام، وضيعه خلفه من أبناء الإسلام لنرى ما وصل إليه حال الأمة في حاضرها، والله أعلم بما هو في مستقبلها.
وإذا فتشنا عن العيب فلا ريب أن العيب في المسلمين لا في الإِسلام يقول (مصطفى صادق الرافعي) في كتابه إعجاز القرآن:
"التقوى هي فضيلة أراد بها القرآن إحكام ما بين الإنسان والخلُق، وإحكام ما بين الإنسان وخالقه، ولذلك تدور هذه الكلمة ومشتقاتها في أكثر آياته الأخلاقية والاجتماعية . والمراد أن يتقي الإنسان كل ما كان فيه ضرر لنفسه أو ضرار لغيره لتكون حدود المساواة قائمةً في الاجتماع لاتصاب فيها ثلمةٌ، ولايعتريها وهن. وكل ما أصاب الاجتماع من ذلك فإنما يصيب الدين؛ لأن هذه التقوى هي مصدر النية في المؤمنين، فإذا اعتدوا ظالمين ولم يحتجزوا من أهوائهم وشهواتهم التي لا تألوهم خبالاً ولا تنفك متطلعةً منازعةً، فإنما ينصرفون بذلك عن الله، ويُغمضون في تقواه، ويترخصون في زجره ووعيده، فكأنهم لايبالونه ما بالوا أمر أنفسهم، وكأن ضمير أحدهم إذا لم يحفل بتقوى الله لايحفل بالله نفسه.. الخ. كلام الرافعي(2).
ونحن على يقين من أن الزمان لايثبت على حال، فالسعيد من لازم فيه خُلُق التقوى التي إذا استغنى بها المسلم زانته وأغنته، وإن افتقر دعته إلى الصبر، فهي أمل السلامة في الخير والشر على السواء، وفي النعمة والضَّرَّاء. كما أنها باب من أبواب الجنة إن شاء الله تعالى.
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكثر ما يُدخل الجنة قال: "تقوى الله وحسن الخلق" وما أكثر ما يدخل النار قال: "الأجْوَفانِ الفَمُ والفَرَح" (رواه البخاري ومسلم)(3).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أولى الناس بي المتّقون مَن كانوا وحيث كانوا" (رواه أحمد وبمثل هذا السنة الصحيحة)(4).
هذا لمن أراد دوام السلامة والعافية في الدين والدنيا والآخرة؛ لأنه ما من عبدٍ مسلمٍ أطلق لنفسه العنان فيما يتنافى مع تقوى الله إلا وجد عقوبة ذلك عاجلاً أو آجلاً.
ومن الغرور والفجور أن يسيء العبد فيرى إحسانًا عقب إساءته فيظن أنه قد سومح وذهبت إساءته مع النسيان، والله عز وجل يقول: ﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ (سورة النساء الآية: 123).
ويقول سبحانه: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ (الكهف:49).
وما أبلغ وأروع وأجمع هذا الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم من جاءه يسأل الوصية والموعظة، فقد روى أبوسعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أوصني، قال: "عليك بتقوى الله؛ فإنها جماع كل خير، وعليك بالجهاد؛ فإنه رهبانية المسلمين، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن؛ فإنه نورٌ لك في الأرض وذِكرٌ في السماء، وأخزن لسانك إلا من خير؛ فإنك بذلك تغلب الشيطان"(5).
والمسلم الذي يتخلّق بهذا الخلق الكريم على هذا النحو إنما يسمو بنفسه ويرضى بعمله من حيث عظّم الشارع أمر هذا الخلق، وجعله أصلاً من أصول الخير والبرّ والنجاة.
لكن لايكون هذا إلا على أساس من فقه في الدين، ورغبة في مكارم أخلاقه، بحيث يجد الحافز والدافع إلى ملازمة أخلاق المتقين الذين تجعلهم التقوى على حذرٍ شديد وخوفٍ عميقٍ من الوقوع فيما لايُرْضِي الله، حتى يصل إلى أن يدع ما لا بأس به حذرًا مما به البأس، لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "لن يبلغ أحدكم أن يكون من المتّقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به البأس"(6).